المجاملة قضية متعدّدة الشعب.. تظهر الحكم الصحيح على من تبنّاها إنطلاقاً من فكره.. وهي قدرة فطريّة يستطيع الإنسان من خلالها التحكّم بتعبيراته الخَلْقِيِّة واللفظيّة لتجسيد كلّ مستحسن مطلوب، وإخفاء كلّ سيّء مرفوض، هي أيضاً كلمة رحبة في معناها وتوضيح أبعادها من لزوميّة تطبيقها، وبما أنّ الإسلام في كلّ أحواله شرع ينتهج النور، فإنّ الأمور المستحبّة التي ليس لها قواعد شرعيّة تنصّ عليها كثيرة، وهي قطعاً محصلة لدين سمح يرفق بالعباد، إنّ الخير بكافّة وجوهه، والسعي إليه غاية معهودة متاحة يحفّها الجدّ والإخلاص، وليس كما يدّعي أولو الأفئدة العليلة كونها مهام صعبة سيَّجتها المشاق، ولاشكّ في أنّ من يحتمل المجاملة بقلبه واحد من اثنين: رحيم خيّر ذو لبّ نقيّ، أو لئيم شرّه مستطير.
هناك الضعيف، والفقير، والبائس، والمريض، والمحسن لنا، والمحتاج للمادّة والمعنى... ألا يستحقّون أن نجاملهم بكلمة طيّبة هي في حقيقتها صدقة؟؟
هناك المشاكل، وهناك من نتّقي شرّهم.. ألا يستحقّون أن نجاملهم بكلمة طيّبة هي في حقيقتها قاعدة شرعيّة فحواها درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة؟؟
هناك الكافر والضالّ.. ألا يستحقّون أن نجاملهم بكلمة طيّبة هي في حقيقتها دعوة لديننا الإسلاميّ الحقّ؟؟
هناك الضيف، والشيخ، والطفل، والأمّ، والأب..ألا يستحقّون كلمة طيّبة هي في حقيقتها من شعب الإيمان؟؟
إنّنا إذ نجامل على حساب الدين نقضي على حسن نوايانا ونهلك من حيث نعلم أولا نعلم، محرّم أن نلتمس رضا الناس في غضب الله، كأن نجاري أهل المعاصي مجاملة فنرضيهم، ولا نهتم بغضب الله، محرّم أن نجاري الخلق للظفر بغاياتنا ليس إلا.
بين المجاملة والنفاق فاصل رقيق تراه الأنفس النيّرة وهي النيّة، متى ما صدقت نيّة الإنسان لتحقيق الخير فهو مجامل، ومتى ما إستعبد نفسه هواها صار منافقاً يجري لحظ قلبه المريض، وإليكم هذه القصّة العجيبة التي حدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
دخل أبو غرزة على امرأته -وكان معه ابن الأرقم- فقال: أتبغضينني؟ قالت: نعم، فأتى ابن الأرقم عمر بن الخطاب فأخبره، وكان عمر آنذاك أمير المؤمنين فأرسل عمر إلى امرأته -زوجة أبي غرزة- فقال: ما حملكِ على ما قلتِ؟ قالت: إنّه إستحلفني فكرهتُ أن أكذب، فقال عمر: بلى، فلتكذب إحداكنّ ولتجمّل، التجمّل يعني: لتقول قولاً جميلاً فليس كلّ البيوت تُبنى على الحبّ، ولكن معاشرة على الأحساب والإسلام.
وعلى عظم هذه الفائدة إلاّ أنّ للمجاملة أخطار جسيمة.
¤ المجاملة ليست منهجاً تربويّاً:
عندما نربّي أبناءنا على المجاملة فإنّ شخصيّة المؤمن القويّ ستضمحلّ.. وسوف لن تكون المجاملة كما هي بمعناها في نفوس أطفالنا -مجاملة- بل ستنقلب إلى خوف دفين لا يعلم سرّه، ويترتّب عليه العجز عن قول الحقّ والعجز عن إبداء الرأي والعجز عن البتّ في المواضيع، وكذلك العجز عن إتخاذ القرارات.. وربّما يكون هذا الطفل فريسة سهلة لغيره على إختلاف الأغراض، وهذا ما لا يمثّل شخصيّة المسلم.
المربّي الناجح يستطيع تربية ابنه على الأخلاق مع إيضاح -متى يحترم.. متى يجامل.. متى يصدع بالحقّ- هي مهمّة صعبة لكنّها أهون بكثير من العاقبة، كما أنّ المجاملة ذريعة للكذب البواح فحين يعتاد الإنسان المجاملة في كلّ شيء على حساب دينه، وخلقه، ونفسه، وغيره، فإنّه لا شعوريّاً سيدخل دائرة المحذور -الكذب- من حيث لا يشعر.. يكذب ويكذب ويكذب إلى أن يكتب عند الله كذّاباً، والعياذ بالله.. هذا إذا لم يصل دائرة النفاق، وتعدّ المجاملة مصدر ريبة وتفكيك للروابط بالدرجة الأولى إذا إعتادها المرء.. خصوصاً إذا علم من هذا الشخص مجاملته المفرطة فإنّ أقرانه لن يصدقوه في شيء كما لن يهمّهم رأيه، وبالتالي سينشأ الشكّ بين الأفراد، ومن ثمّ انعدام الثقة.
¤ المجاملة عامل تكسير:
بعض الناس يحسن إستخدام كلمة المجاملة، لكنّه لا يحسن إستخدام معناها بالسهولة التي نطقها بها، إنّ التعامل بالمجاملة أمر مسوّر بإختيار الوقت المناسب وكذلك المكان، وممّا لا شكّ فيه هي أمر مرتبط بإعطاء كلّ بقدره، فمثلاً إذا جاملت شخصاً ذكيّاً وقعت في فخّه بأسرع ممّا تتوّقع، أمّا إذا جاملت سليط لسان فلن تتخلّص من شركه، وإذا جاملت شخصاً ذا مزاج معقّد وإكتشفك فإنّك ستزيد تعقيده تعقيداً... المجاملة لعبة ذكيّة إن لم يفز بها الطرفين فهي خاسرة بلا شكّ، وإن لم تكن من المتمرّسين فيها فلا تقحم نفسك بمداخل توصلك إلى غير مرادك.
ومع كلّ هذا إلاّ أنّ المجاملة ضرورة ووسيلة...هي ضرورة لكسب القلوب، وزرع الخير، ممّا عقدت عليه النيّة أنّه لله.. وكذلك هي وسيلة لدرء المفاسد ولا غرر، فهي لجلب المصالح أيضاً بعيداً عن الضرر بأنواعه.. كيف نعرف أنّه ضرر؟؟ ضع نفسك مكان الإختبار إن رضيت لنفسك ما ترضاه لأخيك فهو خير، وإن لم ترض فهو ضرر...إعمل ولا تقبل لأخيك إلاّ ما تحبّ لنفسك.
الكاتب: قويت الشلهوب.
المصدر: موقع رسالة المرأة.